خريطة الموت ...
عالم شباب سوريا :: المشاركات :: قصة
صفحة 1 من اصل 1
خريطة الموت ...
خريطة الموت ...
فى مجموعة نجيب محفوظ القصصية
(الفجر الكاذب)
تكشف المجموعة القصصية الأخيرة لنجيب محفوظ (الفجر الكاذب) ، والصادرة عن (مكتبة مصر) عن استشراف فريد لعالم الموت، وطقوسه، ولكنها تتحول مع نجيب محفوظ من موقف الهاجس والانتظار إلى السؤال الفلسفى بمسحة صوفية هادئة، تطرح الأسئلة أكثر ما تقدم إجابات، ومن موقع فى ممر الذى يفصل عالم الأحياء وعالم الموتى.
الحوار مع الموت هى محور قصص (الفجر الكاذب) ، بقصصها الخمس والعشرين من مجموع ثلاثين قصة تضمها المجموعة، حيث تتكرر ملامح شخوصها المعبرة عن الشيخوخة (الوحدة والإحباط والاغتراب).
وتشى رؤية العالم لنجيب محفوظ فى هذه المجموعة بالنظرة الأخيرة لمسافر يغادر مدينته بلا عودة وهو يلتقط بعينيه الصورة الأخيرة لمدينته من داخل الطائرة تأهب للاختفاء داخل السحاب. إنها الصورة أو المشهد الأخير، الأعمق والأكثر حكمة وحزناً.
هل كان نجيب محفوظ يرسم خريطة موته الشخصية التى كانت تتكرر على كورنيش نيل القاهرة فى أمسية من أمسيات أكتوبر قبل أعوام؟
تسيطر الواقعية الرمزية على قصص المجموعة بمناخ الغموض والعبارات المكسورة والتعليقات المبتورة والأسئلة اليتيمة، وتكشف هذه الرواية عن الواقع داخل كادر يسيطر على الموقف الوجودى والذى يتبادل الموقع مع السؤال الفلسفى الميتافيزيقى.
والخط الآخر الذى يوازى الموت أو جدلية الوجود والعدم، هو خط التغيير: أسئلة الزمن الصعبة الفهم، وحيث يشمل التغيير كل شئ: الناس والأمكنة والعلاقات والخطابات.
وربما كانت أهم قصص المجموعة قاطبة هى قصص (الفجر الكاذب) و(تصف يوم) و (يرغب فى النوم) و(الجرس يرن) و(المرة القادمة) و(على ضوء النجوم) و(الميدان والقهر) و(فوق السحاب)، فقد بلغ نجيب محفوظ سقفه الفنى الأعلى فيها، والملاحظ أن هذه القصص تتعلق بمغزى الموت ومراجعة الحياة، ومناقشة قضايا الوجود الإنسانى، وتجاوز المحسوس إلى اللامحسوس، والحوار مع الميتافيزيقى.. وهو مناخ يذكرنا بأعمال نجيب محفوظ السابقة وذات الصيغة الواقعية الميتافيزيقة مثل قصته القصيرة (زعبلاوى) وقصته (تحت المظلة) ورواياته (الطريق) و(السمان والخريف) و(الشحاذ) و(اللص والكلاب) صحيح أن شخوصه تنطلق على أرض واقعية ولكنها تنطلق بقاماتها لتلمس السحاب بأيديها.
يمكن عموماً أن نقسم محاور مجموعة (الفجر الكاذب) إلى ثلاث مجموعات تغطى تيمتين أساسيتين؛ الموت والتغيير.
فالقسم الأول من قصص المجموعة والتى تناقش مشكل الوجود الإنسانى وتتحاور مع الموت يضم قصص: (الجرس يرن) و(الفجر الكاذب) و(يرغب فى النوم) و(الهمس) و(مرض السعادة) و(نصف يوم) و(على ضوء النجوم) و(فوق السحاب) و(رجل) و(مرض السعادة) و(المرة القادمة) و(النشوة فى نوفمبر) ، وفيها يقف نجيب محفوظ واضعاً قدماً فى العالم المادى وقدما أخرى فى العالم الميتافيزيقى ممسكا بشعلة بروميثيوس، تنطلق منها شرارات الأسئلة الكبرى حول الوجود والحياة والموت والعدم والبعث ومصير الإنسان.
أما القسم الثانى والخاص بتيمة التغيير، والتى تشكل القاسم المشترك لهذا المحور، وتتناول حركة الزمن الفلسفى والمادى ووقعه على الناس والأمكنة والعلاقات الاجتماعية، وهى القضية التى تشغل نجيب محفوظ منذ (الثلاثية) حيث يناقش تأثير حركة الزمن على الوجود المادى والمعنوى .. وتضم قصص هذا القسم كلاً من: (تحت الشجرة) و(عندما يقول البلبل لا) و(يوم الوداع) و(الغابة المسكونة) و(القضية) و(العجوز والأرض) و(الهمس) و(حوار) و(الميدان والمقهى) و(من تحت لفوق) و(أحلام متضاربة) و(فى غمضة عين).
أما القسم الثالث، والذى يتوزع على التيمتين السابقتين ، ولكن تسيطر عليه فنياً سمة السخرية الناتجة عن المفارقة فتضم قصص (الخيال العاشق) و(خطة بعيدة المدى) و(مولانا) و(وصية سواق التاكسى) فالشيخ المعدم الذى تجاوز السبعين يموت فى اليوم نفسه الذى يمتلك فيه نصف مليون جنيه بسبب إفراطه فى الطعام الفاخر وذلك فى قصة (خطة بعيدة المدى).
وسائق الأجرة يسب الكاتب الصحفى المعروف دون أن يعرف أنه هو نفسه الذى يجلس بجانبه فى السيارة لتوصيله إلى مقر الجريدة. وذلك فى قصته: (وصية سواق تاكسى).
تطرح قصة (الفجر الكاذب) المصير البشرى على مائدة البحث، فبطلها يحاول الفرار من مطارد يحاول الثأر منه، ولكن هذا المطارد لا يظفر بكثير عنه، وبعد أن تتعقد الأحداث والبطل يحاول التوسط واثناء المطارد عن الأخذ بثأره منه، نكشف أننا أمام طريق مسدود، وان هالة كبيرة من الغموض والحيرة تحيط بهذا المطارد.. ويتنكر الجميع للبطل فى النهاية حتى زوجته ويرتد ضالاً منكورا عن الجميع إلا من أخ يظهر فجأة.
ولكن على المستوى الرمزى تفضى القصة إلا قراءة دلالية أخرى. فالرجل يومئ للإنسان الذى يبحث عن مصيره فلا يجده يقول: ولم يتبق إلا خطوة يسيرة لأتساءل عمن أكون وفى أى مكان أقيم والزمان الذى أعاصره.. والطبيب النفسى الذى يلجأ له يطلب منه فعلاً أن يقدم حلا لمشكلة مصر والعالم، يتداخل الخطر الفردى والخطر الجماعى: المواطن (الوطن) العالم. ويشعر بالخطر كلما شم رائحة المسك إنه آدم المطرود من الجنة، ورائحة المسك تذكره بخطيئته التى يحاول الفرار منها.
(من منا الذى يخشانا ونخشاه. وجمعت الحياة بيننا؟).
يتركنا نجيب محفوظ فى حيرتنا مستغرقين ولكنه يلقى إلينا ببعض علامات الطريق التى قد تساعدنا على الاهتداء إلى الطريق الصائب، ولهذا يقتفى رجلنا شجرة عائلية الفقيرة - الإنسان الفقير الذى يسير من ضلال إلى خواء، ولكنه يهتدى إلى جد عظيم فى النهاية.
إنها رحلة تذكرنا برحلة صابر الرحيمى بطل (الطريق) الشاب الذى يظل يبحث عن أبيه وأملاكه فى كل مكان كما تجبره أمه القوادة بسيمة عمران (أمنا الأرض) قبل مماتها. ولأن خطر الضلال والتيه موجه للبشرية جميعها، تنبهنا القصة على لسان الطبيب إلى أن خلاص البطل مرتبك بخلاص مصر والعالم كله وطبيب المصحة يرى أن تصورى لحل مشاكل مصر والعالم قادر ضمنا على حل مشكلته المؤرقة.
إن حبل النجاة يبدأ طرفه بمراجعة الإنسان لمسيرته، منذ إلقائه فى الكون وخلاصة الإبستمولوجى يفضى به إلى خلاصة الروحى، وإذا اتصل الإنسان بأبيه السماوى واستوعب مأساته ضمن الخلاص.
يقول: ودفعنى إلى النبش فى الماضى لعلى اعثر على أصل كريم غابر أضنى عليه دهر لا يرحم. وأهلتنى دراستي الجامعية للبحث فتوغلت فيه بإصرار، ومازالت انتقل من جد فقير إلى آخر أجير حتى اهتديت إلى جد خطير فى عصر، كيف تدهور ذلك العظيم؟ لقد تمرد على أبيه فحرمه من الميراث. وبسبب ذلك ظل طريدا طويلا من الفقر والذل. وعرفت من التاريخ سر النزاع القديم الذى اتخذ من الثأر المتوارث وسيلة متجددة فتك بأزواج لا تحصى من أبناء الأسرة جيلا بعد جيل لا يعفى منها غنى أو فقير.
وفى قصة (الجرس يرن) نقرأ قصة من أروع ما كتب نجيب محفوظ من قصص قصيرة، يقف الرجل فى نهاية رحلته يتأمل الأمور فى المنطقة الفاصلة بين الحياة والموت. يستجلب حكمة الحياة ويستقطر معناها فى تأملات هادئة باطنية، وبلغة فنية رائعة تعتمد على التورية والإشارة والرمز، فالرجل المسن الذى يستعد للخروج لزيارة ابنته المتزوجة يفاجأ بطارق وينصرف، ويخاطب ابنته فى الهاتف ليحدثها بالأمر فتستحثه على المجئ ويتوهم بانصرافه ويتأهب للخروج ولكنه يفاجأ به أمامه فيرتبك ويقدم له عذراً واهياً، ويصر الرجل على أصحابه، ويدور بينهما حوار، بسيط العبارة ولكنه مشحون بالمقابلة بين الخوف والثقة، الحزم والتردد، ونفهم حوار، بسيط العبارة ولكنه مشحون بالمقابلة بين الخوف والثقة، الحزم والتردد، ونفهم من خلال الحوار الذى جاء هو ملاك الموت، ويطلب منه أن يغير ربطة عنقه، ويتراجع صاحبنا ويذعن لطلبه فيخرج الطارق ربطة عنقه ويعقدها له، ويطمئن على أناقة بطلنا قبل أن يصحبه معه، وقد سيطر المؤلف على بنية هذه القصة تماماً وخاصة عندما لم يذكر لون ربطة العنق بل اكتفى بوصفها بأنها مناسبة لما آنس منه تردداً يقول: مد يده فحل عقدة رباط رقبته، وأخرج من جيبه رباطاً آخر مناسباً، وفرد ياقة القميص وطوقه، به، ثم راح يعقد برشاقة ومهارة، وثنى الياقة وألقى عليه نظرة فاحصة وقال بارتياح غاية فى الأناقة، تأبط ذراعه، مضى به، ثم أغلق الباب.
ويكشف الحوار الذى يدور بين الرجل والقادم المجهول عن علاقة الموت بالحياة ويبسط الموقف تماماً، كأن رجلاً ينزع روحه من داخله ثم يجلس ليتأملها فى هدوء ويفلسف مشكلة الموت فى لغة فنية سهلة ولكنها مشحونة بدلالات عميقة يقول على لسان بطله:
ـ ألا يمكن أن نؤجل المشوار للصباح؟
ـ حقاً إنى أبدو فظاً ولكن الأمر ليس بيدى كما تعلم.
ـ يا سيدى الفرص لا تنقطع وما أكثر المشكلات التى تحل بلا حل.
فقال برجاء أخيراً:
ـ لا شك أنك تعلم بمدى احترامى لك.
ـ علم الله إنها عاطفة متبادلة ولكن العمل لا يرحم فضلاً عن أنه ينجز لصالح الجميع.
ـ طيب. جارى أنت تعرفه طبعاً مشكلتنا واحدة يمكن أن يحل محلى اليوم.
ـ لا.. لا دوره أبعد مما تتصور.
ـ هل يتغير نظام الكون إن لم نذهب هذا المساء.
ـ بل فى هذه الساعة أيضا.
ـ وتكشف إجابة الضيف عن الجار (دوره أبعد مما تصور) عن انباطه ودقة حصد الأرواح.
وفى قصص (رجل) و(فى غمضة عين) و(النشوة فى نوفمبر) و(غداً تغرب الشمس) و(فوق السحاب) يثير نجيب محفوظ موقف التأهب للرحيل فأبطالها تجاوزوا الستين والسبعين. وهم يفضلون المغامرة والتأهب واللذة على الخنوع والانصياع لأوامر الأطباء انتظاراً لعمر أطول. تنزع الحياة ثوبها لتظهر عارية بلا حلى أو أصباغ، ويمضى المؤلف يناقش فى هذا الموقف قضايا الموت، والمصير.. ويصرخ البطل فى وجه صديقه فى نهاية (غدا تغرب الشمس) إن الموت صديق وفى ثياب عدو فنجيب محفوظ يقدم لنا الموت حدثاً رائعاً اليفاً لا غرابة فيه وإن تنوعت سبل هذا التقديم بين صياغة سهلة مباشرة صريحة كما هو الحال فى (فوق السحاب) و(غدا تغرب الشمس) أو يناقش القضية فى بناء فنى محكم صعب الصياغة وغامض الوقائع ومنهم .. فى قصة (نصف يوم) يناقش نجيب محفوظ قضية مفضلة عنده وهى تغير الزمان وما يفعله بالشخصية، وهو يقدم زمنا له معنيان. الزمان المادى الذى نعرفه ثم الزمان الوجودى، ففى هذه القصة يسير الطفل مع أبيه فى اليوم الأول للمدرسة ولأول مرة فى حياته ويخوض بنا تفاصيل اليوم الأول للمدرسة وتفاصيل الطرق المؤدية للمدرسة ولكن عند الانصراف ينتظر مجئ أبيه لاصطحابه فلا يجئ فيتخذ قرارا بالعودة إلى المنزل بمفرده. فيجد تفاصيل الحى قد تغيرت ويكتشف فى نهاية السطر الأخير عندما يعجز عن عبور الشارع بمفرده أن الطفل أصبح عجوزاً مسناً يعجز عن عبور الشارة، ويلخص المؤلف هذا التغير فى عبارة واحدة عندما يعرض عليه صبحى الكواء أن يوصله (يا حاج.. دعنى أوصلك)..
والمدرسة التى يمضى بها الطفل الإنسان يومه هى الحياة الكبيرة بكل تناقضاتها ولا مجال للتملص منها أو التراجع، ولا عودة إلى جنة المأوى وعندما يدق جرس الانصراف نفهم أنه جرس الموت ـ الرحيل.
يقص المؤلف عن يومه الأول فى المدرسة الحياة (استسلمنا للواقع .. وسلمنا الاستسلام إلى نوع من الرضا .. وانجذبت أنفس ـ ومنذ الدقائق الأولى صادق قلبى من الأولاد من صادق، وعشق من البنات من عشق حتى خيل إلى أنها هواجس لم تقم على أساس. لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء، وأيضاً وتليت علينا القصة. وتناولنا طعاما لذيذا .. وغفونا قليلا وصحونا لنواصل الصداقة والحب واللعب والتعليم. وأسفر الطريق عن وجهه كله فلم نجده، صافيا كامل الصفاء والعذوبة كما توهمنا ربما تدهمه رياح صغيرة وحوادث غير متوقعة فهو يقضى أن نكون على تمام اليقظة والاستعداد مع التحلى بالصبر.
إنها بانوراما مكثفة لرحلة الإنسان الصاخبة المحتشدة فى الحياة.
ويناقش محفوظ قضية خيانة الإنسان لأمانة الاستخلاف فى قصة (يرغب فى النوم) وعنوانها الأدق (يرغب فى الموت) فالرجل العجوز يعود بعد خمسين عاماً ليسأل عن عائلة مجهولة لا يستدل عليها أحد ولكنه يتوصل إلى مقبرتهم ويفهم من اللحاد أن الأسرة جميعاً رحلت، وان الابن الصغير قد سرق خزانة الأب فمات من كدره ولحقت به الزوجة لتوها، ويدفع الكاتب بجملة واحدة فى سياق الحوار بين العجوز واللحاد لتفهم أنه ذلك الابن الصغير الذى هرب بعد أن سرق خزانة أبيه فقد تأخرت رحلة العودة والتطهر نصف قرن. جاءت متأخرة بعد أن أصبحت يقظة الضمير والخلاص والبحث عن العدل لا جدوى منها. وهكذا ترفع الواقعة المادية إلى مستوى دلالى أعمق يحيل المادى إلى رمزى.
وتنتهى القصة بهذا المقطع: (وقد حياه وانصرف) سار كالأعمى لا يرى بين يديه فعمى البشر عن الحقيقة وعن طريق نشدان السعادة فى هذا العالم سر تعاستهم وسوف نظل نتخبط فى دجانا مادمنا نفتقد تلك البصيرة.
أما المحور الثانى والذى يناقش التغيير المادى والفلسفى فيضم قصصاً كثيرة لأنه يناقش محاور فرعية عديدة فمنها تغيير الخريطة الاجتماعية بتغيير العلاقة بين الرجل والمرأة، كما فى قصص (عندما يقول البلبل لا) و(ذكرى امرأة) و(يوم الوداع).
وهذه العلاقة تشمل علاقة الرجل بزوجته أو الرجل بحبيبته أو زوجة أبيه، ومنها ما يناقش التغير الاجتماعى على مستوى الوطن بأكمله وتتبدى هذه القصة واضحة فى قصة (ذقن الباشا) وهو اسم مقهى ظل بطله يتردد عليه منذ العشرينيات وحتى الثمانينيات، ويصور من خلال تبدل رواد المقهى التغير الاجتماعى فى مصر ويعبر نجيب محفوظ عن انتقاده لثورة يوليو لانتقادها فترة التحول الليبرالى وثورة 1919، ويرصد حيرة الشباب بعد هزيمة 67 وهجرتهم من مصر، ثم زحف الانفتاح الاقتصادى وتنتهى بإعلان بيع المقهى التاريخى ليتحول إلى محل تجاري، ومن ثم ينجح نجيب محفوظ فى رصد حركة الزمان المتغير من خلال موقع ثابت هو مقهى (ذقن الباشا) كما يرسم صعود وهبوط الشرائح الطبقية المختلفة يقوم فى القصة ألم نصدق أول الأمر، حتى تأكد لدينا أنه سيقوم مقامة محل تجاري. يا ألطاف الله! إنه خبر كطعنة خنجر، مقهى العمر والذكريات والآباء لمقهى الذى داعب صبانا وأوى شبابنا وشهد حبنا وزواجنا وإنجابنا وهزيمتنا ونصرنا.
إن واقعية نجيب محفوظ واقعية فلسفية فى هذا العمل، تثير وتناقش أشكالاً فلسفية الطابع من خلال حركة الواقع، وإذا كانت الواقعية فى الأدب تعبر عما فى الواقع الإجتماعى من تفاعل وصراع وحركة وتشابك ونمو كحالة وكإيمان وكوضع وكرؤية، وكنشاط وكحلم فهى تكشف بنوعيتها الأدبية الخاصة فى القارئ عن العملية الاجتماعية التاريخية فى حركتها المتشابكة المتصارعة وعن إمكاناتها الكامنة. ولذا نفهم تداخل المستويين فى قصص هذه المجموعة الواقعى والفلسفى، ويبدو محفوظ مهموما إلى جانب تأمله فى مغزى النقلة الوجودية من الحياة إلى الموت، فى مغزى حركة المجتمع، الفقراء الذين يغتنون فجأة، والأغنياء الذى يسقطون إلى قاع الفقر، ففى (خطة بعيدة المدى) يحصل الفقير المسن عصام البقلى فى سن السبعين على ثورة قدرها نصف مليون جنيه لقاء بيع منزل أمه القديم لاحدى شركات الانفتاح، وفى قصة (تحت الشجرة) يخرج البطل من المعتقل ليفاجأ بملامح جديدة لمجتمع ينكرها، ويرى أن طرق الحياة، قد تشبعت بالركام وأن مصطلحات جديدة، وحركات جديدة، ونقلات مفاجئة تلف للمحيطين به، ويصارحه النادل قائلا: زمن المبادئ مضى وهذا زمن الهجرة مشيراً إلى تقدم القيمة المادية على ما سواها، وتفسح المشروع الاجتماعى حيث يبحث الجميع عن الخلاص الفردى، كما يدين سقوط المثقفين إلى دائرة المصالح والسقوط الجهنمية .. يحاور النادل لا أرى أحداً من زبائن زمان.
ـ لعلهم فى البيوت، هؤلاء سماسرة ورجال أعمال وسياح الانفتاح يا أستاذ.
ـ والأصدقاء .. ألا يجيئون كالعادة؟
ـ أبدا .. منذ سنوات طويلة.
فعبس متسائلا : كلهم.
ـ ولا واحد يوحد الله.
ـ عندك فكرة عنهم؟
ـ طبعاً، القاسم والرملاوى ورضوان مدرسون.
ـ خير وبركة.
ـ والقائمة السوداء.
ـ لا سوداء ولا بيضاء.
والسيوفى؟
ـ السيوفى وبدران ورزق الله فى فرنسا صحافة عربية، ثراء أيضاً.
ـ وأكرم؟
ـ تاب، ويعمل فى الصحافة القومية.
ـ وجلال؟
ـ يعمل فى الأهالى؟
فالانقلاب فى الخريطة الاجتماعية، وتبادل المواقع فى حركة الصراع اليومى شديدة الوطأة. ويحاول نجيب محفوظ من خلال وعيه الذى يعكس وجوده الاجتماعى ذاته أن يناقش مغزى هذه التحولات، حتى إن العلاقة بين الرجل والمرأة تستأثر منه بعده قصص وخاصة أن الانقلاب والتحول والشقاق يسمها، ففى (يوم الوداع) يجول بطله بشوارع الإسكندرية متأملاً إياها قبل أن يقبض عليه بعد أن قتل زوجته والتى أنهت قصة حب طويلة بينهما خلقت أبنة وأبناء، ويوازى محفوظ بين ما يعترى علاقة الزوجين من تحول وما اعترى الوطن نفسه، فابنه يخاطبه: حالكما لا يسر يا بابا. كحال بلدنا وأسوا لذلك فإنى سأهاجر فى أول فرصة.
على أنه تتبقى فى قصص هذه المجموعة ثلاث قصص تعد من أهم ما كتب محفوظ من كتب قصصية فى سنواته الأخيرة لصعوبة قراءتها وإحكامها الفنى ومدلولها الرمزى المهم وهى استمرار لقصصه الواقعية ذات الإشكالية الفلسفية العميقة والتى تحتاج إلى قراءة خاصة بها وهى قصص (على ضوء النجوم) و(المرة القادمة) و(الميدان والمقهى).
لا أعتقد أن نجيب محفوظ قد تبقى له الكثير مما يقوله فنيا بعد هذه المجموعة وخاصة أنه تنبأ أن كاتبها يكتبها من موقع المتأهب للسفر، وقد اكتفى بالنظرة الأخيرة كما يقول. وكما فعل بطله فى (يوم الوداع) الذى يلتقط النظرة الأخيرة قبل أن يمسكوا به بعد أن قتل زوجته..
لقد ساهم نجيب محفوظ بنصيب كبير فى طرح إشكاليات الوجود الإنسانى وبالأخص منذ أعماله الأولى وحتى (الحرافيش) ولكنه فى المجموعة الأخيرة يقدم أغنية البجعة الأخيرة برغم أن بعض قصص المجموعة مثل (فى المدينة) و(من تحت لفوق) و(عندما يقول البلبل لا) مخيبة الآمال فى مستواها إلى حد كبير بسبب ـ تكرار فكرتها ومباشرة المعالجة.
د. محسن خضر
أستاذ بجامعة عين شمس
فى مجموعة نجيب محفوظ القصصية
(الفجر الكاذب)
تكشف المجموعة القصصية الأخيرة لنجيب محفوظ (الفجر الكاذب) ، والصادرة عن (مكتبة مصر) عن استشراف فريد لعالم الموت، وطقوسه، ولكنها تتحول مع نجيب محفوظ من موقف الهاجس والانتظار إلى السؤال الفلسفى بمسحة صوفية هادئة، تطرح الأسئلة أكثر ما تقدم إجابات، ومن موقع فى ممر الذى يفصل عالم الأحياء وعالم الموتى.
الحوار مع الموت هى محور قصص (الفجر الكاذب) ، بقصصها الخمس والعشرين من مجموع ثلاثين قصة تضمها المجموعة، حيث تتكرر ملامح شخوصها المعبرة عن الشيخوخة (الوحدة والإحباط والاغتراب).
وتشى رؤية العالم لنجيب محفوظ فى هذه المجموعة بالنظرة الأخيرة لمسافر يغادر مدينته بلا عودة وهو يلتقط بعينيه الصورة الأخيرة لمدينته من داخل الطائرة تأهب للاختفاء داخل السحاب. إنها الصورة أو المشهد الأخير، الأعمق والأكثر حكمة وحزناً.
هل كان نجيب محفوظ يرسم خريطة موته الشخصية التى كانت تتكرر على كورنيش نيل القاهرة فى أمسية من أمسيات أكتوبر قبل أعوام؟
تسيطر الواقعية الرمزية على قصص المجموعة بمناخ الغموض والعبارات المكسورة والتعليقات المبتورة والأسئلة اليتيمة، وتكشف هذه الرواية عن الواقع داخل كادر يسيطر على الموقف الوجودى والذى يتبادل الموقع مع السؤال الفلسفى الميتافيزيقى.
والخط الآخر الذى يوازى الموت أو جدلية الوجود والعدم، هو خط التغيير: أسئلة الزمن الصعبة الفهم، وحيث يشمل التغيير كل شئ: الناس والأمكنة والعلاقات والخطابات.
وربما كانت أهم قصص المجموعة قاطبة هى قصص (الفجر الكاذب) و(تصف يوم) و (يرغب فى النوم) و(الجرس يرن) و(المرة القادمة) و(على ضوء النجوم) و(الميدان والقهر) و(فوق السحاب)، فقد بلغ نجيب محفوظ سقفه الفنى الأعلى فيها، والملاحظ أن هذه القصص تتعلق بمغزى الموت ومراجعة الحياة، ومناقشة قضايا الوجود الإنسانى، وتجاوز المحسوس إلى اللامحسوس، والحوار مع الميتافيزيقى.. وهو مناخ يذكرنا بأعمال نجيب محفوظ السابقة وذات الصيغة الواقعية الميتافيزيقة مثل قصته القصيرة (زعبلاوى) وقصته (تحت المظلة) ورواياته (الطريق) و(السمان والخريف) و(الشحاذ) و(اللص والكلاب) صحيح أن شخوصه تنطلق على أرض واقعية ولكنها تنطلق بقاماتها لتلمس السحاب بأيديها.
يمكن عموماً أن نقسم محاور مجموعة (الفجر الكاذب) إلى ثلاث مجموعات تغطى تيمتين أساسيتين؛ الموت والتغيير.
فالقسم الأول من قصص المجموعة والتى تناقش مشكل الوجود الإنسانى وتتحاور مع الموت يضم قصص: (الجرس يرن) و(الفجر الكاذب) و(يرغب فى النوم) و(الهمس) و(مرض السعادة) و(نصف يوم) و(على ضوء النجوم) و(فوق السحاب) و(رجل) و(مرض السعادة) و(المرة القادمة) و(النشوة فى نوفمبر) ، وفيها يقف نجيب محفوظ واضعاً قدماً فى العالم المادى وقدما أخرى فى العالم الميتافيزيقى ممسكا بشعلة بروميثيوس، تنطلق منها شرارات الأسئلة الكبرى حول الوجود والحياة والموت والعدم والبعث ومصير الإنسان.
أما القسم الثانى والخاص بتيمة التغيير، والتى تشكل القاسم المشترك لهذا المحور، وتتناول حركة الزمن الفلسفى والمادى ووقعه على الناس والأمكنة والعلاقات الاجتماعية، وهى القضية التى تشغل نجيب محفوظ منذ (الثلاثية) حيث يناقش تأثير حركة الزمن على الوجود المادى والمعنوى .. وتضم قصص هذا القسم كلاً من: (تحت الشجرة) و(عندما يقول البلبل لا) و(يوم الوداع) و(الغابة المسكونة) و(القضية) و(العجوز والأرض) و(الهمس) و(حوار) و(الميدان والمقهى) و(من تحت لفوق) و(أحلام متضاربة) و(فى غمضة عين).
أما القسم الثالث، والذى يتوزع على التيمتين السابقتين ، ولكن تسيطر عليه فنياً سمة السخرية الناتجة عن المفارقة فتضم قصص (الخيال العاشق) و(خطة بعيدة المدى) و(مولانا) و(وصية سواق التاكسى) فالشيخ المعدم الذى تجاوز السبعين يموت فى اليوم نفسه الذى يمتلك فيه نصف مليون جنيه بسبب إفراطه فى الطعام الفاخر وذلك فى قصة (خطة بعيدة المدى).
وسائق الأجرة يسب الكاتب الصحفى المعروف دون أن يعرف أنه هو نفسه الذى يجلس بجانبه فى السيارة لتوصيله إلى مقر الجريدة. وذلك فى قصته: (وصية سواق تاكسى).
تطرح قصة (الفجر الكاذب) المصير البشرى على مائدة البحث، فبطلها يحاول الفرار من مطارد يحاول الثأر منه، ولكن هذا المطارد لا يظفر بكثير عنه، وبعد أن تتعقد الأحداث والبطل يحاول التوسط واثناء المطارد عن الأخذ بثأره منه، نكشف أننا أمام طريق مسدود، وان هالة كبيرة من الغموض والحيرة تحيط بهذا المطارد.. ويتنكر الجميع للبطل فى النهاية حتى زوجته ويرتد ضالاً منكورا عن الجميع إلا من أخ يظهر فجأة.
ولكن على المستوى الرمزى تفضى القصة إلا قراءة دلالية أخرى. فالرجل يومئ للإنسان الذى يبحث عن مصيره فلا يجده يقول: ولم يتبق إلا خطوة يسيرة لأتساءل عمن أكون وفى أى مكان أقيم والزمان الذى أعاصره.. والطبيب النفسى الذى يلجأ له يطلب منه فعلاً أن يقدم حلا لمشكلة مصر والعالم، يتداخل الخطر الفردى والخطر الجماعى: المواطن (الوطن) العالم. ويشعر بالخطر كلما شم رائحة المسك إنه آدم المطرود من الجنة، ورائحة المسك تذكره بخطيئته التى يحاول الفرار منها.
(من منا الذى يخشانا ونخشاه. وجمعت الحياة بيننا؟).
يتركنا نجيب محفوظ فى حيرتنا مستغرقين ولكنه يلقى إلينا ببعض علامات الطريق التى قد تساعدنا على الاهتداء إلى الطريق الصائب، ولهذا يقتفى رجلنا شجرة عائلية الفقيرة - الإنسان الفقير الذى يسير من ضلال إلى خواء، ولكنه يهتدى إلى جد عظيم فى النهاية.
إنها رحلة تذكرنا برحلة صابر الرحيمى بطل (الطريق) الشاب الذى يظل يبحث عن أبيه وأملاكه فى كل مكان كما تجبره أمه القوادة بسيمة عمران (أمنا الأرض) قبل مماتها. ولأن خطر الضلال والتيه موجه للبشرية جميعها، تنبهنا القصة على لسان الطبيب إلى أن خلاص البطل مرتبك بخلاص مصر والعالم كله وطبيب المصحة يرى أن تصورى لحل مشاكل مصر والعالم قادر ضمنا على حل مشكلته المؤرقة.
إن حبل النجاة يبدأ طرفه بمراجعة الإنسان لمسيرته، منذ إلقائه فى الكون وخلاصة الإبستمولوجى يفضى به إلى خلاصة الروحى، وإذا اتصل الإنسان بأبيه السماوى واستوعب مأساته ضمن الخلاص.
يقول: ودفعنى إلى النبش فى الماضى لعلى اعثر على أصل كريم غابر أضنى عليه دهر لا يرحم. وأهلتنى دراستي الجامعية للبحث فتوغلت فيه بإصرار، ومازالت انتقل من جد فقير إلى آخر أجير حتى اهتديت إلى جد خطير فى عصر، كيف تدهور ذلك العظيم؟ لقد تمرد على أبيه فحرمه من الميراث. وبسبب ذلك ظل طريدا طويلا من الفقر والذل. وعرفت من التاريخ سر النزاع القديم الذى اتخذ من الثأر المتوارث وسيلة متجددة فتك بأزواج لا تحصى من أبناء الأسرة جيلا بعد جيل لا يعفى منها غنى أو فقير.
وفى قصة (الجرس يرن) نقرأ قصة من أروع ما كتب نجيب محفوظ من قصص قصيرة، يقف الرجل فى نهاية رحلته يتأمل الأمور فى المنطقة الفاصلة بين الحياة والموت. يستجلب حكمة الحياة ويستقطر معناها فى تأملات هادئة باطنية، وبلغة فنية رائعة تعتمد على التورية والإشارة والرمز، فالرجل المسن الذى يستعد للخروج لزيارة ابنته المتزوجة يفاجأ بطارق وينصرف، ويخاطب ابنته فى الهاتف ليحدثها بالأمر فتستحثه على المجئ ويتوهم بانصرافه ويتأهب للخروج ولكنه يفاجأ به أمامه فيرتبك ويقدم له عذراً واهياً، ويصر الرجل على أصحابه، ويدور بينهما حوار، بسيط العبارة ولكنه مشحون بالمقابلة بين الخوف والثقة، الحزم والتردد، ونفهم حوار، بسيط العبارة ولكنه مشحون بالمقابلة بين الخوف والثقة، الحزم والتردد، ونفهم من خلال الحوار الذى جاء هو ملاك الموت، ويطلب منه أن يغير ربطة عنقه، ويتراجع صاحبنا ويذعن لطلبه فيخرج الطارق ربطة عنقه ويعقدها له، ويطمئن على أناقة بطلنا قبل أن يصحبه معه، وقد سيطر المؤلف على بنية هذه القصة تماماً وخاصة عندما لم يذكر لون ربطة العنق بل اكتفى بوصفها بأنها مناسبة لما آنس منه تردداً يقول: مد يده فحل عقدة رباط رقبته، وأخرج من جيبه رباطاً آخر مناسباً، وفرد ياقة القميص وطوقه، به، ثم راح يعقد برشاقة ومهارة، وثنى الياقة وألقى عليه نظرة فاحصة وقال بارتياح غاية فى الأناقة، تأبط ذراعه، مضى به، ثم أغلق الباب.
ويكشف الحوار الذى يدور بين الرجل والقادم المجهول عن علاقة الموت بالحياة ويبسط الموقف تماماً، كأن رجلاً ينزع روحه من داخله ثم يجلس ليتأملها فى هدوء ويفلسف مشكلة الموت فى لغة فنية سهلة ولكنها مشحونة بدلالات عميقة يقول على لسان بطله:
ـ ألا يمكن أن نؤجل المشوار للصباح؟
ـ حقاً إنى أبدو فظاً ولكن الأمر ليس بيدى كما تعلم.
ـ يا سيدى الفرص لا تنقطع وما أكثر المشكلات التى تحل بلا حل.
فقال برجاء أخيراً:
ـ لا شك أنك تعلم بمدى احترامى لك.
ـ علم الله إنها عاطفة متبادلة ولكن العمل لا يرحم فضلاً عن أنه ينجز لصالح الجميع.
ـ طيب. جارى أنت تعرفه طبعاً مشكلتنا واحدة يمكن أن يحل محلى اليوم.
ـ لا.. لا دوره أبعد مما تتصور.
ـ هل يتغير نظام الكون إن لم نذهب هذا المساء.
ـ بل فى هذه الساعة أيضا.
ـ وتكشف إجابة الضيف عن الجار (دوره أبعد مما تصور) عن انباطه ودقة حصد الأرواح.
وفى قصص (رجل) و(فى غمضة عين) و(النشوة فى نوفمبر) و(غداً تغرب الشمس) و(فوق السحاب) يثير نجيب محفوظ موقف التأهب للرحيل فأبطالها تجاوزوا الستين والسبعين. وهم يفضلون المغامرة والتأهب واللذة على الخنوع والانصياع لأوامر الأطباء انتظاراً لعمر أطول. تنزع الحياة ثوبها لتظهر عارية بلا حلى أو أصباغ، ويمضى المؤلف يناقش فى هذا الموقف قضايا الموت، والمصير.. ويصرخ البطل فى وجه صديقه فى نهاية (غدا تغرب الشمس) إن الموت صديق وفى ثياب عدو فنجيب محفوظ يقدم لنا الموت حدثاً رائعاً اليفاً لا غرابة فيه وإن تنوعت سبل هذا التقديم بين صياغة سهلة مباشرة صريحة كما هو الحال فى (فوق السحاب) و(غدا تغرب الشمس) أو يناقش القضية فى بناء فنى محكم صعب الصياغة وغامض الوقائع ومنهم .. فى قصة (نصف يوم) يناقش نجيب محفوظ قضية مفضلة عنده وهى تغير الزمان وما يفعله بالشخصية، وهو يقدم زمنا له معنيان. الزمان المادى الذى نعرفه ثم الزمان الوجودى، ففى هذه القصة يسير الطفل مع أبيه فى اليوم الأول للمدرسة ولأول مرة فى حياته ويخوض بنا تفاصيل اليوم الأول للمدرسة وتفاصيل الطرق المؤدية للمدرسة ولكن عند الانصراف ينتظر مجئ أبيه لاصطحابه فلا يجئ فيتخذ قرارا بالعودة إلى المنزل بمفرده. فيجد تفاصيل الحى قد تغيرت ويكتشف فى نهاية السطر الأخير عندما يعجز عن عبور الشارع بمفرده أن الطفل أصبح عجوزاً مسناً يعجز عن عبور الشارة، ويلخص المؤلف هذا التغير فى عبارة واحدة عندما يعرض عليه صبحى الكواء أن يوصله (يا حاج.. دعنى أوصلك)..
والمدرسة التى يمضى بها الطفل الإنسان يومه هى الحياة الكبيرة بكل تناقضاتها ولا مجال للتملص منها أو التراجع، ولا عودة إلى جنة المأوى وعندما يدق جرس الانصراف نفهم أنه جرس الموت ـ الرحيل.
يقص المؤلف عن يومه الأول فى المدرسة الحياة (استسلمنا للواقع .. وسلمنا الاستسلام إلى نوع من الرضا .. وانجذبت أنفس ـ ومنذ الدقائق الأولى صادق قلبى من الأولاد من صادق، وعشق من البنات من عشق حتى خيل إلى أنها هواجس لم تقم على أساس. لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء، وأيضاً وتليت علينا القصة. وتناولنا طعاما لذيذا .. وغفونا قليلا وصحونا لنواصل الصداقة والحب واللعب والتعليم. وأسفر الطريق عن وجهه كله فلم نجده، صافيا كامل الصفاء والعذوبة كما توهمنا ربما تدهمه رياح صغيرة وحوادث غير متوقعة فهو يقضى أن نكون على تمام اليقظة والاستعداد مع التحلى بالصبر.
إنها بانوراما مكثفة لرحلة الإنسان الصاخبة المحتشدة فى الحياة.
ويناقش محفوظ قضية خيانة الإنسان لأمانة الاستخلاف فى قصة (يرغب فى النوم) وعنوانها الأدق (يرغب فى الموت) فالرجل العجوز يعود بعد خمسين عاماً ليسأل عن عائلة مجهولة لا يستدل عليها أحد ولكنه يتوصل إلى مقبرتهم ويفهم من اللحاد أن الأسرة جميعاً رحلت، وان الابن الصغير قد سرق خزانة الأب فمات من كدره ولحقت به الزوجة لتوها، ويدفع الكاتب بجملة واحدة فى سياق الحوار بين العجوز واللحاد لتفهم أنه ذلك الابن الصغير الذى هرب بعد أن سرق خزانة أبيه فقد تأخرت رحلة العودة والتطهر نصف قرن. جاءت متأخرة بعد أن أصبحت يقظة الضمير والخلاص والبحث عن العدل لا جدوى منها. وهكذا ترفع الواقعة المادية إلى مستوى دلالى أعمق يحيل المادى إلى رمزى.
وتنتهى القصة بهذا المقطع: (وقد حياه وانصرف) سار كالأعمى لا يرى بين يديه فعمى البشر عن الحقيقة وعن طريق نشدان السعادة فى هذا العالم سر تعاستهم وسوف نظل نتخبط فى دجانا مادمنا نفتقد تلك البصيرة.
أما المحور الثانى والذى يناقش التغيير المادى والفلسفى فيضم قصصاً كثيرة لأنه يناقش محاور فرعية عديدة فمنها تغيير الخريطة الاجتماعية بتغيير العلاقة بين الرجل والمرأة، كما فى قصص (عندما يقول البلبل لا) و(ذكرى امرأة) و(يوم الوداع).
وهذه العلاقة تشمل علاقة الرجل بزوجته أو الرجل بحبيبته أو زوجة أبيه، ومنها ما يناقش التغير الاجتماعى على مستوى الوطن بأكمله وتتبدى هذه القصة واضحة فى قصة (ذقن الباشا) وهو اسم مقهى ظل بطله يتردد عليه منذ العشرينيات وحتى الثمانينيات، ويصور من خلال تبدل رواد المقهى التغير الاجتماعى فى مصر ويعبر نجيب محفوظ عن انتقاده لثورة يوليو لانتقادها فترة التحول الليبرالى وثورة 1919، ويرصد حيرة الشباب بعد هزيمة 67 وهجرتهم من مصر، ثم زحف الانفتاح الاقتصادى وتنتهى بإعلان بيع المقهى التاريخى ليتحول إلى محل تجاري، ومن ثم ينجح نجيب محفوظ فى رصد حركة الزمان المتغير من خلال موقع ثابت هو مقهى (ذقن الباشا) كما يرسم صعود وهبوط الشرائح الطبقية المختلفة يقوم فى القصة ألم نصدق أول الأمر، حتى تأكد لدينا أنه سيقوم مقامة محل تجاري. يا ألطاف الله! إنه خبر كطعنة خنجر، مقهى العمر والذكريات والآباء لمقهى الذى داعب صبانا وأوى شبابنا وشهد حبنا وزواجنا وإنجابنا وهزيمتنا ونصرنا.
إن واقعية نجيب محفوظ واقعية فلسفية فى هذا العمل، تثير وتناقش أشكالاً فلسفية الطابع من خلال حركة الواقع، وإذا كانت الواقعية فى الأدب تعبر عما فى الواقع الإجتماعى من تفاعل وصراع وحركة وتشابك ونمو كحالة وكإيمان وكوضع وكرؤية، وكنشاط وكحلم فهى تكشف بنوعيتها الأدبية الخاصة فى القارئ عن العملية الاجتماعية التاريخية فى حركتها المتشابكة المتصارعة وعن إمكاناتها الكامنة. ولذا نفهم تداخل المستويين فى قصص هذه المجموعة الواقعى والفلسفى، ويبدو محفوظ مهموما إلى جانب تأمله فى مغزى النقلة الوجودية من الحياة إلى الموت، فى مغزى حركة المجتمع، الفقراء الذين يغتنون فجأة، والأغنياء الذى يسقطون إلى قاع الفقر، ففى (خطة بعيدة المدى) يحصل الفقير المسن عصام البقلى فى سن السبعين على ثورة قدرها نصف مليون جنيه لقاء بيع منزل أمه القديم لاحدى شركات الانفتاح، وفى قصة (تحت الشجرة) يخرج البطل من المعتقل ليفاجأ بملامح جديدة لمجتمع ينكرها، ويرى أن طرق الحياة، قد تشبعت بالركام وأن مصطلحات جديدة، وحركات جديدة، ونقلات مفاجئة تلف للمحيطين به، ويصارحه النادل قائلا: زمن المبادئ مضى وهذا زمن الهجرة مشيراً إلى تقدم القيمة المادية على ما سواها، وتفسح المشروع الاجتماعى حيث يبحث الجميع عن الخلاص الفردى، كما يدين سقوط المثقفين إلى دائرة المصالح والسقوط الجهنمية .. يحاور النادل لا أرى أحداً من زبائن زمان.
ـ لعلهم فى البيوت، هؤلاء سماسرة ورجال أعمال وسياح الانفتاح يا أستاذ.
ـ والأصدقاء .. ألا يجيئون كالعادة؟
ـ أبدا .. منذ سنوات طويلة.
فعبس متسائلا : كلهم.
ـ ولا واحد يوحد الله.
ـ عندك فكرة عنهم؟
ـ طبعاً، القاسم والرملاوى ورضوان مدرسون.
ـ خير وبركة.
ـ والقائمة السوداء.
ـ لا سوداء ولا بيضاء.
والسيوفى؟
ـ السيوفى وبدران ورزق الله فى فرنسا صحافة عربية، ثراء أيضاً.
ـ وأكرم؟
ـ تاب، ويعمل فى الصحافة القومية.
ـ وجلال؟
ـ يعمل فى الأهالى؟
فالانقلاب فى الخريطة الاجتماعية، وتبادل المواقع فى حركة الصراع اليومى شديدة الوطأة. ويحاول نجيب محفوظ من خلال وعيه الذى يعكس وجوده الاجتماعى ذاته أن يناقش مغزى هذه التحولات، حتى إن العلاقة بين الرجل والمرأة تستأثر منه بعده قصص وخاصة أن الانقلاب والتحول والشقاق يسمها، ففى (يوم الوداع) يجول بطله بشوارع الإسكندرية متأملاً إياها قبل أن يقبض عليه بعد أن قتل زوجته والتى أنهت قصة حب طويلة بينهما خلقت أبنة وأبناء، ويوازى محفوظ بين ما يعترى علاقة الزوجين من تحول وما اعترى الوطن نفسه، فابنه يخاطبه: حالكما لا يسر يا بابا. كحال بلدنا وأسوا لذلك فإنى سأهاجر فى أول فرصة.
على أنه تتبقى فى قصص هذه المجموعة ثلاث قصص تعد من أهم ما كتب محفوظ من كتب قصصية فى سنواته الأخيرة لصعوبة قراءتها وإحكامها الفنى ومدلولها الرمزى المهم وهى استمرار لقصصه الواقعية ذات الإشكالية الفلسفية العميقة والتى تحتاج إلى قراءة خاصة بها وهى قصص (على ضوء النجوم) و(المرة القادمة) و(الميدان والمقهى).
لا أعتقد أن نجيب محفوظ قد تبقى له الكثير مما يقوله فنيا بعد هذه المجموعة وخاصة أنه تنبأ أن كاتبها يكتبها من موقع المتأهب للسفر، وقد اكتفى بالنظرة الأخيرة كما يقول. وكما فعل بطله فى (يوم الوداع) الذى يلتقط النظرة الأخيرة قبل أن يمسكوا به بعد أن قتل زوجته..
لقد ساهم نجيب محفوظ بنصيب كبير فى طرح إشكاليات الوجود الإنسانى وبالأخص منذ أعماله الأولى وحتى (الحرافيش) ولكنه فى المجموعة الأخيرة يقدم أغنية البجعة الأخيرة برغم أن بعض قصص المجموعة مثل (فى المدينة) و(من تحت لفوق) و(عندما يقول البلبل لا) مخيبة الآمال فى مستواها إلى حد كبير بسبب ـ تكرار فكرتها ومباشرة المعالجة.
د. محسن خضر
أستاذ بجامعة عين شمس
عالم شباب سوريا :: المشاركات :: قصة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى