قصة الغيبوبة والإعصار
عالم شباب سوريا :: المشاركات :: قصة
صفحة 1 من اصل 1
قصة الغيبوبة والإعصار
قصة الغيبوبة والإعصار
هدوء شديد يغلف تلك الغرفة الكائنة في الطابق الأخير من مبني المستشفى المركزي، لا يكسره غير الصوت الرتيب الصادر عن جهاز قياس نبضات قلب هذا الجسد الذي تعلوه الأسلاك والخراطيم لتمده بالمحاليل التي تعينه على البقاء حيا. تجلس على كرسيها، ممسكة بمصحفها، تتلو بخشوع، يعلو الإيمان قسمات وجهها، رغم الحزن الذي سطر خطوطه العميقة على وجهها عبر سنوات عمرها الطويل. أعوام عديدة مضت ومازالت إلى جواره، تقرأ القرآن، تصلي وتدعو ربها أن يفيق من غيبوبته التي دامت طويلا، رغم حالته الميئوس منها لكنها لم تقنط من رحمة الله.
من وقت لآخر، تتوقف عن التلاوة، تنظر إلى السماء عبر النافذة، ترفع يديها، تدعو الله أن يفرج كربها، يطول الدعاء، تنحدر الدموع على وجنتيها، تمسح وجهها بكفيها، تردد كلمات الحمد والشكر لله عز وجل. تنظر لجسده المستكين، تبتسم عندما تتذكر تلك اللحظات الجميلة التي عاشتها معه، رغم قصر المدة التي كان فيها واعي، إلا إنها لحظات لا تنسي، ذكريات ومشاعر جارفة تسري في عروقها كلما نظرت إليه، رغم علامات الشيخوخة التي غيرت ملامحه، لكنها مازالت تعشقه.
بينما هي غارقة في فيض المشاعر والذكريات، تعلو طرقات خفيفة على الباب، يدخل الطبيب المتابع لحالة زوجها إلى الغرفة، يلقي عليها التحية:
- كيف الحال سيدة وفاء؟
- بخير حال، الحمد لله رب العالمين.
- الحمد لله.
يقترب من السرير لفحص الزوج، يبادرها بسؤال:
- هل ذهبتي لإعداد المؤن لمرحلة ما بعد الإعصار؟ يقولون إنها ستكون مرحلة عصيبة.
- لكني سمعت أنه لن يمر عبر مدينتنا.
- نرجو هذا، لكن ألن تحاولي الهرب مثل الجميع؟
- أهرب إلى أين بني وأترك حياتي؟
لم يدرك أي حياة تتحدث عنها، فهي قابعة في مكانها هذا منذ عقود، تذهب فقط لإحضار بعض الطعام ثم تعود لتبقي إلى جوار هذا الجسد المفقود الأمل في بقائه. يبتسم ابتسامة من لا يملك إجابة ويباشر عمله، تتابعه بعين يملأها الأمل أثناء فحصه لزوجها، كل يوم تنتظر روحها سماع خبر انتهاء غيبوبته، لكن لا شيء، يمسك تلك اللوحة المعلقة بطرف السرير، يكتب بعض المصطلحات الطبية التي لا تفهمها، ثم يذهب. تعود الذكريات لتداعب مخيلتها وتدغدغ اللحظات الرقيقة مشاعرها، تتذكر حبها له منذ أيام الطفولة عندما كانا يلتقيان في اجتماعات الأسرة - فهو بن عمها -، تتذكر لحظة تقدمه لخطبتها، ولا تنسي تلك السعادة الغامرة يوم أغلق عليهما بابا واحدا، يومها قررت أن مصيرهما واحد. تستكين قليلا، ثم تعود إلي جليسها الوحيد في محنتها التي تعيشها لتتلو بعض سوره وآياته.
فجأة يتعالي وقع الخطوات خارج الغرفة، تسمع همهمات وعبارات مقتضبة، أناس يركضون في كل مكان، لم تكترث كثيرا، فهذا ما يحدث دائما عند وصول إحدى الحالات الحرجة، لكن الضجيج استمر طويلا هذه المرة، رفعت عينيها عن المصحف، عبر النافذة رأت الناس يركضون في الشوارع، يموج بعضهم في بعض، من يعبئ سيارته بالطعام والشراب، من يضع أبنائه في سيارته ويبتعد مسرعا، تعجبت لهذا المشهد، تساءلت، هل تكرر ما حدث الشهر الماضي عندما أعلنوا عن انتشار وباء جديد، نتيجة وصول شحنة من الطيور التي تحمل فيروس قاتل، أدخلها أحد المستوردين، امتعض وجهها، تمتمت:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أكثر الفساد هذه الأيام!
لكن لفت انتباهها تغير لون السماء بسبب الغيوم التي بدأت تظهر في الأفق بشكل كثيف حتى كادت تحجب الشمس، قطع تفكيرها اندفاع الطبيب فجأة عبر الباب، أقشعر بدنها بشده، لم تدرك سر الانقباض الرهيب الذي اعتصر قلبها هذه المرة، لم يتركها في حيرتها، تكلم بتوتر شديد:
- سيدتي، لا أعلم ماذا أقول لك، لكن....
- ماذا بني؟
يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه، يلتقط أنفاسه:
- الإعصار غير مساره، سيمر عبر مدينتنا، لذلك تقرر نقل جميع المرضي إلى مكان آخر وإجلاء جميع السكان بعيدا عن البحر.
- ألهذا السبب يركض الناس هكذا؟
- نعم سيدتي، فقد دمر الإعصار كل الطرق المؤدية إلي المدن المنكوبة وعزلها عن الحياة بعد أن قطع عنها كل سبل الاتصال.
- سبحان الله، أيتحول الهواء الذي نتنفسه إلى هذه القوة المدمرة؟ ما أضعف بني أدم.
- لكن سيدتي...
- ماذا بني؟
بدت على وجهه علامات الحزن والتأثر، تلعثم قبل أن ينطق الكلمات ببطء:
- المكان الآخر لا يوجد فيه مستشفى تملك نفس الإمكانات المتاحة هنا، لن يصمد زوجك دون تلك الإمكانات.
نزل عليها الخبر كالصاعقة، لم تعرف بماذا تجيب، احتبست الدموع في عينيها، زاغ بصرها في أرجاء المكان، استمر الصمت لثواني مرت كالدهر، عادت لتنظر إليه راجية، لكنه لم يتحدث، سألته:
- وما العمل بني؟
- الله المستعان سيدتي، لكن لا نملك أن نفعل شيئا، فالإعصار قادم وستنقطع إمدادات المياه والتيار الكهربائي أيضا، كما يخشي الجميع أن تُغرق الفيضانات المصاحبة كل البنايات، كما حدث في المدن الأخرى التي مر عبرها.
نظرت إليه بعين يملأها الحزن والألم، لكنها لم تتحدث:
- الوقت يداهمنا سيدتي، فرق الدفاع المدني في كل مكان يساعدون الناس على الرحيل، يجب أن ترحلي سيدتي.
نظرت إلي حبيبها، ارتعدت، اهتز المصحف في يديها:
- أرحل؟ ماذا عن زوجي؟
نظر إليها بإشفاق، تردد قبل أن يقترح:
- يمكن أن ننقله بإحدى السيارات ونأمل أن يظل صامدا حتى يصل لإحدى المدن الأخرى.
- لا بني، إن قدر لنا أن نموت، فأفضل أن أموت إلي جواره ولعل الله يعطينا فرصة أخيرة.
- لكن يجب أن أبلغ عن وجودك سيدتي ليتم إجلائك.
- أرجوك بني، دعني أقضي آخِر لحظاتي معه.
لا يعلم ماذا يقول، تتحشرج الكلمات في حلقه:
- حسنا سيدتي، لكن يجب أن أذهب لأحاول أن أنقل أسرتي خارج المدينة.
- وفقك الله وهداك وأهلك سواء السبيل، اذهب بني لتنقذ أسرتك.
ينظر إليها بوجه حزين قبل أن يغادر المكان مسرعا، تنظر إلى زوجها نظرة شاردة، تتوجه صوبه، تجلس على طرف السرير، تضع المصحف إلي جواره، تمسك بيده، تمسح جبينه بكل حب وحنان، تكلمه كأم حنون تحدث صغيرها:
- حبيبي، لم أشعر برحيلك رغم مرور كل هذه السنوات؟ يخبرني الجميع أنك لست هنا، لكني أشعر بوجودك كل لحظة، أشعر بأنفاسك تعطر الهواء، مازالت ضحكاتك تتردد في أذناي، أسمع كلماتك الرقيقة بداخلي، لا يمكن أن أكون واهمة كل هذا الوقت.
تتأمل وجهه، تنحدر الدموع علي وجهها، تلتقط أنفاسها:
- حبيبي، أدعو الله كل يوم أن يردك إلى، فأنا تائهة من دونك. أين أذهب؟ أين أجد حلو الحياة؟ الجميع يخشي الموت وأنا أخشي الابتعاد عنك.
تمسح الدموع عن وجهها، تتحدث إليه مبتسمة كأنها تطمئنه:
- حسنا لن أبكي، أعلم أنك لا تحب أن تري دموعي. لكن حبيبي لن أتركك أبدا، سأبقي إلى جوارك، دعني أتلو كلام ربي وأدعوه، فلم أكن يوما بدعاء ربي شقية.
أمسكت المصحف وجلست إلي جوار رأسه، أخذت تتلو سورة النمل، تنسكب الدموع على وجنتيها حتى وصلت لقوله تعالي:
\"أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ(62)\"
تنتحب بشدة، تنظر إلي السماء التي أصبحت مظلمة، كأنها ليلة بلا قمر، رفعت يديها، أخذت تدعو:
- يا الله، يا واسع الفضل يا عظيم، يا ذا الجلال والإكرام، يا من وسعت قدرته كل شيء، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، اللهم إني أشكو بثي وحزني إليك، اللهم بلغ العمر أرذله واشتعل الرأس شيبا، فمن لي سواك يا الله، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أيقظه من غيبوبته، لنذكرك كثيرا ونشكرك كثيرا، يا واسع الملكوت، يا رب...يا رب...يا رب...
بكت كثيرا، لم تدرك كم مر من الوقت، حتى انتبهت للإعصار يقترب كمارد غاضب، يقتلع الأشجار وأعمدة الإنارة، يحطم الطرقات والكباري، يُغرق البيوت بفيضانات عاتية. تنظر إلي تلك الدوامة العجيبة الشكل التي تبتلع كل شيء في طريقها، تشعر بخوف شديد، تقوم إلى سجادة الصلاة، تدخل في صلاتها، تنسي الهموم، بين البكاء والأمل.
بقلم: عدنان القماش.
22 يونيو 2007
http://qss.bdr130.net/category/6
عالم شباب سوريا :: المشاركات :: قصة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى